يكاد عناصر الجيش اللبناني ينطقون في إحدى صور الإعتداء على النازحين من سوريا إلى عرسال بالإستفهام البعثي: "بدكم حرية؟" إذ يحيطون بعدد من اللاجئين، الذين قيدوهم، وتركوهم على بطونهم فوق التراب، قبل أن ينتشروا من حولهم. لوهلة، يعتقد المرء أن المشهد هذا عبارة عن لقطة من أحد فيديوهات التعذيب الأبدي، لكنه، سرعان ما ينتبه إلى أن الأمر ليس على هذه الحال أبداً.
فهذه المرة، المؤسسة القامعة ليست جيش بشار حافظ الأسد. والجنود المعتدون ليسوا من "بواسله"، أما وجه الشبه الوحيد فهو المعذبين، الذين لا حضور لغيرهم في مشاهد العنف السورية واللبنانية على حد سواء. ما وقع البارحة في عرسال بمثابة امتداد لما يحصل في "سوريا الأسد". غير أنه، وفي الوقت نفسه، امتداد متباين، وقاسٍ. فبعدما قتل الجيش البعثي السوريين بسؤال "بدكم حرية؟"، ها هو جيش آخر، "شقيق"، يقمعهم بسؤال آخر:"بدكم لجوء؟" وما أن يكمل طرحه حتى يحرق خيامهم، كأن لا حرية لهم سوى في الإحتماء بالعراء.
والحال، أن الصورة لا تخفي هذا الإمتداد المتباين بين اعتدائين، واستبدادين، خصوصاً أنها ملتقطة من زاوية تبدو فيها أجساد الموقوفين منبسطة في مساحة خطية، تدرك العين طولها، بلا أن تحدد ختامها. فمن الجسم، الذي قطعت الكاميرا رأسه، في بداية اللقطة، إلى جسمين آخرين، ظهرا في نهايتها، محاولين الركوع، وبعده الجثوم. عشرات النازحين، أو أكثر، الملتصقين ببعضهم البعض، والمترامين، بجلودهم وثيابهم الهزيلة، خارج الإطار. ربما، الترامي، هنا، مرده المعاناة، التي يشعرون بها تحت، أو بجانب، البوطات العسكرية، التي اختار أصحابها الدوس عليهم، ونكء جروحهم، بحجة "مكافحة الإرهاب".
لقد أراد الجيش، وقبله سلطات حزبية، إخبارنا أن جميع النازحين، الموقوفين وغيرهم، "إرهابيين". قال ذلك في روايةٍ، ألفت بركاكة لا لُبس فيها، وقد عممتها الصحافة صباح اليوم. لكن، للصورة قول مختلف، لا سيما حين تظهر مجموعة من النساء، يفتشن عما تبقى من خيّمهن المحروقة. ارتفع الدخان، وانتشر سواده الداكن، وهنّ يحدقن في الأرض بحثاً عن حاجياتهن. هن ينظرن إلى التراب المتفحم. والموقوفون فيحتكّون به على ضغط ورصّ. أما الأطفال، فكانوا، في صورة أخرى، يشاهدون وقائع الإعتداء أمامهم.
طبعاً، الممانعون غضوا الطرف عن تلك الحادثة القمعية، وقد رأوا في استنكارها نوعاً من "الحب"، المخفي وغير المعلن لـ"داعش". فكل مستنكر، بالنسبة إلى هؤلاء، هو "إرهابي" مستتر، وبالتالي، لا شك في عدائه لجيش "الشرف والتضحية والوفاء".
لا تعرف المؤسسة العسكرية أنها، بممارساته الاعتدائية بحق النازحين، تقلص التباين بين الصورتين البعثية واللبنانية، وبين "بدكم حرية؟" و"بدكم لجوء؟"، وبين القتل ومكافحة الإرهاب. لا تعرف تلك المؤسسة أن استرداد جنودها المخطوفين، أو تعزيز "أوراق تفاوضها"، لا يحصل بـ"تشديد قبضتها" على حيوات اللاجئين، وحرق خيمهم، أو أن استرجاع أرضها، حدوداً وجروداً، يجري بتسوية أجساد السوريين بها. لا تعرف، أو هذا هو المرغوب على الأقل، لكي تدرك أن ممارساتها، إن تواصلت، ستصير غير محتملة البتة، تماماً مثل فيديوهات التعذيب الأسدي. وفي الحين نفسه، ستبرر ما يتعرض له النازحون من تهديدات وأفعال عنصرية في البلاد، من تحويلهم إلى حواجز بشرية في الطرق إلى إعلانهم "عدواً" على جدران الشوارع.
ماذا يعني أن يزيل الجيش اللبناني التباين بين صورتين سوى توريطه في المجزرة الأسدية، كأن يتحول إلى جيشها الآخر؟ ماذا يعني أن يفتح إطار الصورتين على بعضهما البعض، فلا نعرف إن كانت عرسال هي بلدة من البلدات التي يحتلها "البعث"، أم أنها تسعى إلى استرداد سيادتها؟
من الأفضل للجيش أن يحمي النازحين من المجزرة، ومرتكبيها، أكانوا ميلشيات "المقاومة والممانعة"، أو عصابات "داعش" و"النصرة". بذلك، ينأى بتضحياته عن فقدان قيمتها، ولا يحول ما يسمى "الإجماع الوطني على دوره" إلى "توافق لبناني على الإبادة". فالبارحة كانت الصورة العرسالية بمثابة امتداد متباين للصورة البعثية. ربما، غداً، ستستحيل امتداداً مطابقاً لها... والجميع، يعرف أن الاستحالة هذه لن تُحمد عقباها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث